الاستفادة من التجربة الصينية: رؤى تحليلية للدول العربية
في خضم التحولات العالمية المتسارعة في الاقتصاد، التكنولوجيا، والسياسة، يظهر كتاب “Breakneck: China’s Quest to Engineer the Future” للمؤلف دان وانج كمرجع أساسي لفهم كيف يمكن للدول أن تستفيد من التجارب المتنوعة. يقدم الكتاب مقارنة شيقة بين الصين والولايات المتحدة، حيث يوضح أن الصين تُدار بعقلية المهندسين، بينما تهيمن مهنة المحاماة على الولايات المتحدة.
الاختلافات الجوهرية بين التجربتين الصينية والأمريكية
يمكن تلخيص أبرز الفروقات بين التجربتين الصينية والأمريكية في النقاط التالية:
القيادة والتوجه
- في الصين، يقود المهندسون دفة الأمور، مما يتيح تنفيذ المشروعات الضخمة بكفاءة وسرعة. القرارات مركزية، مما يسهل التخطيط طويل الأمد.
- في المقابل، الولايات المتحدة يقودها المحامون، مما يؤدي إلى جدالات مطولة حول كل خطوة. النظام القانوني المعقد يعيق اتخاذ القرارات ويؤخر تنفيذ المشاريع.
الاستراتيجيات الاقتصادية
- الصين تركز على التخطيط الاستراتيجي والتطوير الصناعي، مما يحقق إنجازات ملموسة في التكنولوجيا والابتكار.
- الولايات المتحدة تعاني من تراجع في القدرة على تنفيذ مشاريع طويلة الأجل، حيث تتعطل الخطط بسبب المنازعات القانونية والتعقيدات الإدارية.
التعامل مع المجتمع
- الحكومة الصينية تتعامل مع الشعب كجزء من نظام متكامل، مما قد يبدو قاسيًا ولكنه فعال في تحقيق النجاح الاقتصادي.
- الولايات المتحدة تواجه جدلاً دائمًا حول الحقوق والقضايا الاجتماعية، مما يؤدي إلى انقسام المجتمع وتأخير تنفيذ المشاريع.
المرونة في مواجهة التحديات
- الصين تتمتع بقدرة أكبر على التكيف السريع مع التغيرات والتحديات العالمية، مما يمكنها من استغلال الفرص الجديدة.
- الولايات المتحدة تواجه صعوبات في التكيف بسبب التركيز على الجدل القانوني والسياسي، مما يؤدي إلى تباطؤ الأداء.
أسس النجاح الصيني: نظرة أعمق
يتضح أن النجاح الصيني لا يقتصر على “عقلية المهندس” فقط، بل يعتمد على أسس سياسية وعملية أكثر تعقيداً:
البراغماتية والتدرج
الصين رفضت “نهج الإصلاح بالصدمة” الذي أوصت به المؤسسات الغربية، وتبنت نهجاً تدريجياً في الإصلاح والانفتاح، مع الحفاظ على دور مركزي للدولة. لم تتخل الصين عن التخطيط المركزي تماماً، بل أدخلت تدريجياً آليات السوق والمنافسة إلى جانب التخطيط الحكومي.
الاستثمار في الادخار والمعرفة
شجعت الصين الادخار بمعدلات غير مسبوقة (تجاوزت 50% من الناتج المحلي)، مما وّلد فائضاً كبيراً مول الاستثمارات الداخلية والخارجية. كما أولت الدولة عناية فائقة للبحث والتطوير ونقل المعرفة من خلال الاستثمارات الأجنبية.
الانفتاح الواعي
فتحت الصين الباب أمام الاستثمارات الأجنبية ولكن بشروطها، مستفيدة منها في خلق فرص عمل ونقل المعرفة التكنولوجية، دون أن تسمح لها بالهيمنة على الاقتصاد الوطني.
دروس مستفادة للدول العربية
هل يمكن للدول العربية الاستفادة من التجربة الصينية؟ تبني “كفاءة المهندس” لا يعني التضحية بـ “حكمة الأديب” أو “عدالة الفقيه”. التحدي الحقيقي للعالم العربي هو بناء ثقافة جديدة تولد من رحم هذا التكامل، ثقافة تقدر الإبداع التقني كما تقدر النقاش النقدي البناء، وتجعل من العلم وسيلة لخدمة الإنسان ورفعته.
إلى جانب هذا التكامل الحضاري، يمكن للدول العربية أن تركز على ما يلي:
- التعليم الفني والهندسي: تعزيز قدرة الشباب على المشاركة في مشاريع التنمية.
- التفكير والتخطيط الاستراتيجي: تطوير استراتيجيات طويلة الأمد تتجاوز التحديات اليومية والجدل السياسي. نجاح المملكة العربية السعودية في صياغة رؤيتها 2030 وتحقيق نجاحات فاقت التوقعات هو مثال على إمكانية تطوير استراتيجيات تعبر الفجوة بين الوضع الراهن والمستقبل المنشود بمبادرات متنوعة ومؤشرات مقاسة.
- تشجيع وتبني ثقافة الابتكار والتقنية: خاصة في مؤسسات التعليم العالي والمعاهد التقنية.
- تحسين البنية التحتية وتبسيط الإجراءات القانونية: لتسهيل الأعمال والاستثمارات والنجاح في المنافسة العالمية.
وفي النهايه :
ليست المسألة مجرد اختيار بين نموذجين، بل هي دعوة لتوليد نموذج ثالث مستنير بسنن التاريخ، يستلهم انضباط المهندس وكفاءته، ويحافظ على حيوية النقاش المجتمعي وقيم العدالة. إن العالم العربي أمام فرصة تاريخية لكتابة فصل جديد في سجل الحضارة الإنسانية، فصل لا يكون فيه تابعاً بل رائداً، يجمع بين أمجاد الماضي وروح العصر، لبناء مستقبل لا يقل إشراقاً عن إرثه التليد. وما ذلك على الله بعزيز.
• أحمد نوار – عضو هيئة تدريس سابق – جامعة الملك عبدالعزيز، وكاتب في جريدة بوابة حلوان.