الطباعة والنشر في عهد الملك المؤسس: نظرة تاريخية وتحليلية
شهد عهد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود انطلاقة متواضعة لحركة الطباعة والنشر، تمركزت في مدن مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة. اقتصرت هذه الحركة في بدايتها على طباعة الصحف الصادرة آنذاك، إضافة إلى بعض الكتب الأدبية والدينية. وقد أولى الملك المؤسس اهتمامًا خاصًا بتنظيم هذا القطاع الحيوي، وشمل ذلك طباعة الكتب ونشرها على نفقته الخاصة داخل المملكة وخارجها، مما يعكس رؤيته الثاقبة لأهمية النشر في بناء الدولة الحديثة.
لمحة عن الطباعة والنشر قبل عهد الملك عبدالعزيز
قبل توحيد المملكة العربية السعودية، كانت الطباعة محدودة النطاق في الجزيرة العربية. ففي عام 1300هـ/1883م، أنشئت مطبعة رسمية في مكة المكرمة، والتي كانت تعنى بطباعة التقويم الرسمي لولاية الحجاز، بالإضافة إلى كتب التراث وبعض المؤلفات الثقافية، وكتب المتون والشروح التي تدرّس في المسجد الحرام، وصحف مثل “حجاز” و”شمس الحقيقة”. وفي عام 1327هـ/1909م، أسس ماجد الكردي مطبعة في مكة المكرمة، لتؤول بعدها إلى أبنائه، إضافة إلى مطابع أهلية صغيرة أخرى. وفي نفس العام، تأسست مطبعة الإصلاح في جدة، والتي كانت تتولى طباعة صحيفة “الإصلاح الحجازي” الأسبوعية.
الطباعة والنشر في عهد الملك عبدالعزيز: التوسع والتطوير
في عهد الملك عبدالعزيز، شهدت المطبعة الحكومية (الأميرية) بمكة المكرمة تجديدًا شاملًا. قامت الحكومة السعودية بشراء ودمج المطابع الأهلية الصغيرة مع المطبعة الحكومية، وأسست مطابع أم القرى، والتي أصبحت فيما بعد تعرف بـ “مطبعة الحكومة”. خصصت هذه المطابع لطباعة القرارات والتعليمات الحكومية، وأُرسل بعض الموظفين إلى مصر للتدرب على فنون الطباعة. ظهرت أيضًا مطابع أخرى في مكة المكرمة، مثل المطبعة الماجدية والمطبعة العربية. وفي المدينة المنورة، تم استيراد مطبعة من مصر في عام 1355هـ/1936م. أما جدة، فقد احتضنت ثلاث مطابع رئيسة، هي: مطبعة الشركة العربية، والمطبعة الشرقية، ومطبعة الفتح.
تنظيم المطبوعات: إرساء القواعد القانونية
شهد عهد الملك المؤسس إصدار نظامين للمطبوعات، الأول عام 1347هـ/1928م، والثاني عام 1358هـ/1939م. كما أصدر الملك عبدالعزيز أمرًا بإعفاء واردات الورق والآلات الخاصة بالمطابع في مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة من الرسوم الجمركية، في خطوة لدعم وتطوير هذا القطاع.
طباعة الكتب ونشرها: مبادرة ثقافية رائدة
تبنى الملك عبدالعزيز طباعة ونشر الكتب الأدبية والدينية والتراثية، بما في ذلك كتب تفسير القرآن الكريم، على نفقته الخاصة، وتوزيعها داخل المملكة وخارجها، في العالمين العربي والإسلامي. طُبعت هذه الكتب في مطبعة أم القرى والمطبعة السلفية بمكة المكرمة، بالإضافة إلى مطابع في الهند ومصر والشام، وذلك خلال الفترة من عام 1335هـ/1917م إلى 1373هـ/1954م. وبلغ عدد الكتب المطبوعة خلال هذه الفترة نحو 100 كتاب، ووصل عدد نسخها إلى 100 ألف نسخة، بعضها بلغات أخرى غير العربية، مثل الهندية والجاوية، ومنها ما جرى تحقيقه. حرص الملك عبدالعزيز على إيصال هذه الكتب إلى طلاب كلية الشريعة وتوزيعها عليهم مجانًا، مساهمة منه في نشر العلم والمعرفة.
من بين هذه الكتب: “تاريخ ابن غنام (روضة الأفكار والأفهام بمرتاد حال الإمام)”، و”ديوان عقود الجواهر المنضدة الحسان” لسليمان بن سحمان، وكتب أخرى لابن سحمان، مثل “الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية”، بالإضافة إلى “تاريخ ابن كثير (البداية والنهاية)”، وهو 14 مجلدًا، و”المغني” لعبدالله بن قدامة، و”الشرح الكبير” لعبدالرحمن بن قدامة، و”تفسير الحافظ لابن كثير”، و”روضة المحبين ونزهة المشتاقين” للإمام ابن قيم الجوزية، و”ذكرى الكشافة العراقية (حج عام 1353هـ/1935م)”، و”كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب” لابن خزيمة، الذي نُشر عام 1353هـ/1935م، و”الشريعة” لأبي بكر بن محمد بن الحسن الآجري، المطبوع عام 1369هـ/1950م، وكتاب “مجموعة التوحيد”.
وفي النهايه :
تعكس حركة الطباعة والنشر في عهد الملك عبدالعزيز رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء دولة حديثة قائمة على العلم والمعرفة. فمن خلال تنظيم قطاع الطباعة، ودعم نشر الكتب، وتشجيع المؤسسات العاملة في هذا المجال، وضع الملك المؤسس اللبنات الأولى لصناعة نشر مزدهرة، أسهمت في إثراء الحياة الثقافية والفكرية في المملكة العربية السعودية. يبقى السؤال مفتوحًا حول كيف يمكن الاستفادة من هذه الأسس التاريخية لتعزيز صناعة النشر في العصر الرقمي، ومواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة؟
