القبلة: اتجاه صلاة المسلمين نحو الكعبة المشرفة
القبلة، وهي الاتجاه الذي يتوجه إليه المسلمون في صلواتهم، تتمثل في الكعبة المشرفة، الواقعة في قلب المسجد الحرام بمكة المكرمة في غرب المملكة العربية السعودية. تعتبر القبلة هي الوجهة الثانية للمسلمين بعد بيت المقدس.
بعد حوالي 17 شهرًا من هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، تم تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. هذا التحويل أدى إلى تغيير اتجاه محراب النبي، عليه الصلاة والسلام، من الجهة الشمالية للمسجد إلى الجهة الجنوبية.
أهمية التوجه إلى القبلة
التوجه نحو القبلة واجب عند أداء الصلاة، كما يُسن توجيه الميت نحوها عند الدفن، ويُستحب توجيه الذبائح إليها عند النحر. تصح صلاة من أخطأ اتجاه القبلة في مكان بعيد عن العمران، على عكس من يخطئها أثناء الصلاة في مكان مأهول.
دور المحاريب في تحديد القبلة
تعتبر محاريب المساجد نقاط ارتكاز لتحديد القبلة، حيث تتوسط المصليات ويصطف المصلون خلفها يمينًا وشمالًا. تصح صلاة من انحرف عن القبلة انحرافًا طفيفًا لا يغير الجهة الأصلية.
يعتبر جوف الكعبة بأكمله جزءًا من القبلة، حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه صلاة النافلة. تصح صلاة الفريضة في الكعبة دون تحديد اتجاه معين، ولكن الأفضل أن تُصلى خارجها لتجنب الخلاف والاقتداء بفعل النبي عليه الصلاة والسلام.
دور علماء الفلك في تحديد اتجاه القبلة قديماً
منذ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، بدأ علماء الفلك المسلمون في تحديد اتجاه القبلة بالاعتماد على رسم دوائر دلائل القبلة للبلدان الإسلامية. اعتمدوا في ذلك على الأدلة الهندسية والفلكية معًا، وذلك قبل اختراع البوصلة بقرون، بالإضافة إلى جهاز جايرو تيود لايت الحديث. تمكنوا من تحديد اتجاه القبلة بدقة عالية، تكاد تصل إلى اليقين، بفضل الأسس العلمية الموثوقة التي اعتمدوا عليها.
جهود علماء المسلمين القدماء
يُحسب لعلماء المسلمين القدماء جهودهم الكبيرة في تحديد اتجاه القبلة بدقة تقترب من اليقين. حتى في العصر الحديث، مع وجود الأجهزة المتطورة مثل جهاز الجايرو تيود لايت، لا يزال تحديد القبلة يتطلب معرفة المسافة بين البلد المراد تحديد القبلة له ومكة المكرمة، بالإضافة إلى معرفة خطي الطول والعرض لذلك البلد.
دوائر دلائل القبلة
نقل العالم أحمد سوسة عن دوائر دلائل القبلة في كتب الفلكيين المتقدمين دائرتين لابن الوردي المتوفى عام 861هـ/1457م، وللصفاقسي المتوفى عام 958هـ/1455م، ومن تلك الدوائر دائرة دلائل القبلة للقزويني المتوفى عام 682هـ/1283م، إضافة إلى وصف أبي عبيدالله البكري، وابن سراقة العامري، وابن جماعة، والدائرة التي أوردها شهاب الدين أحمد العمري في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، مصحوبة بوصف يحدد قبلة جميع أهل الأرض من جهات الكعبة المشرفة، وأتبعها بدائرة أخرى عن صورة البروج والأفلاك والكواكب السبعة السيارة.
إسهامات العلماء في دلائل القبلة
تتجلى إسهامات العلماء والفلكيين المسلمين في دلائل القبلة من خلال توسط مكة المكرمة والكعبة المشرفة للعالم، وهو ما يُستشهد به كدليل قاطع على صحة وصفهم لمكة المكرمة والكعبة المشرفة بأنهما سرة الأرض ووسط الدنيا.
ابن حوقل ودوره في توضيح القبلة
يُعد الرحالة والجغرافي العربي ابن حوقل، المتوفى عام 367هـ/977م، أحد العلماء الفلكيين المسلمين الذين أسهموا في توضيح القبلة، إذ ألف كتابه المسمى صورة الأرض بعد ترحال في البلاد الإسلامية دام 28 عامًا، ورفع مسودته الأولى إلى سيف الدولة الحمداني. الكتاب نشره المستشرق الهولندي دي جويه مع مجموعة المكتبة الجغرافية العربية عام 1290هـ/1873م، ثم طبع طبعة ثانية في العاصمة البريطانية لندن عام 1357هـ/1938م، وطبعة أخرى حديثة في بيروت.
قسم ابن حوقل الأقاليم إلى 20 إقليمًا، ووضع صورة لكل إقليم منها، وبدأ بديار العرب فجعلها إقليمًا واحدًا، معللاً ذلك بقوله: “فابتدأت بديار العرب لأن القبلة بها، ومكة فيها، وهي أم القرى وبلد العرب وأوطانهم التي لم يشركهم في سكناها غيرهم”.
ابن يونس المصري
يمثل ابن يونس المصري أحد علماء الفلك العرب والمسلمين بعد البتاني وأبي الوفاء البوزجاني، في الأبحاث الفلكية التي ساعدت المسلمين على رسم دائرة العالم التي تحيط بالكعبة قبلة المسلمين في كل بقاع الأرض.
طريقة البيروني في تحديد اتجاه القبلة
يُعتبر البيروني من أبرز علماء المسلمين الأوائل في مجالات العلوم الفلكية والجغرافية الطبيعية والرياضيات. ألّف عددًا كبيرًا من الكتب والمقالات، منها كتاب دلائل القبلة، وعدة مقالات في إيضاح الأدلة على كيفية سمت القبلة، ومقالة تقويم القبلة ليس بتصحيح طولها وعرضها، ومقالة تلافي عوارض الزلة في كتاب دلائل القبلة.
طريقتان لتحديد القبلة
ذكر البيروني طريقتين لتحديد اتجاه القبلة: الأولى تعتمد على الحسابات المثلثية باستخدام القوانين الرياضية المعروفة في زمنه، والثانية هندسية خالصة أطلق عليها “الطريق الصحيح لمعرفة سمت القبلة”، وهي لا تحتاج إلى حسابات معقدة، لتسهيل الأمر على الأئمة في تحديد اتجاه القبلة في مختلف البلدان الإسلامية.
تحديد اتجاهات القبلة في كتابات البكري
عثر الباحث الدكتور عبدالله يوسف الغنيم على الجزء الخاص بجزيرة العرب من كتاب المسالك والممالك المفقود للجغرافي الأندلسي أبي عبيدالله البكري، وحققه ونشره عام 1397هـ/1977م.
في وصف البكري لجزيرة العرب، ورد أول نص عن تحديد اتجاهات القبلة لبلدان العالم الإسلامي، حيث ذكر أن قبلة أهل الكوفة وبغداد هي الركن الذي بين الباب والحجر، وهو إلى الباب أقرب قليلًا، وقبلة أهل الجزيرة عن يمين هذا الركن مما يلي الحجر منحرفًا إلى الحجر، وقبلة أهل الشام ميزاب الكعبة، وقبلة أهل اليمن الركن اليماني، وقبلة أهل اليمامة الركن الذي فيه الحجر الأسود، وقبلة أهل البصرة باب البيت، وقبلة أهل جدة وما جاورها من أسوان والصعيد وما وراء البحر ما بين الركن الغربي واليماني.
طرق معرفة اتجاه القبلة
تتعدد الطرق الشرعية لمعرفة اتجاه القبلة، منها الاعتماد على البوصلة لتحديدها مباشرة، أو النظر إلى الجهة التي تقع فيها مكة المكرمة من بلد المتحري للقبلة واستقبالها. إذا كانت مكة المكرمة تقع بين جهتين، فيمكن التحري والاجتهاد في تحديد الجهة الصحيحة. كما يمكن الاستدلال بالنجوم في الليل، وبطلوع الشمس وغروبها في النهار.
يجوز لمن يصلي النافلة في طائرة أو سفينة الاتجاه إلى أي جهة غير القبلة، بخلاف الفريضة، حيث يجب عليه أن يدور معها حسب قدرته. إذا غلبه الأمر ولم يشعر إلا وهو متجه إلى جهة مغايرة للقبلة، فلا يضره ذلك.
يحرم استقبال القبلة أو استدبارها أثناء قضاء الحاجة في الأماكن العامة المكشوفة دون حائل، ويجوز ذلك في المباني. في حال وجود مخططات لمبان غير مكتملة أو لم يبدأ تنفيذها بعد، وتتضمن مراحيض موازية للقبلة، فالأفضل تعديلها لتجنب محاذاة الكعبة في الاستقبال أو الاستدبار.
تحديد اتجاه القبلة في المساجد
يستخدم لتحديد القبلة في مباني المساجد والمصليات جهاز إلكتروني يعتمد على إبرة مغناطيسية تتحرك أفقيًّا على محور رأسي ثابت. يتم استخدامه عن طريق إدارة مؤشر التوجيه حول الجهاز حتى يحاذي خارطة البلد المراد تحديد القبلة فيه، ويمكن استخدامه في أي بلد في العالم.
يُمكن تعيين القبلة بحساب موقعها وزاوية ميلها إلى مشرق الشمس ومغربها وفقًا لخطوط الطول والعرض، أو بحساب زاوية ميلها عن اتجاهي الشمال والجنوب من خلال رصد النجم القطبي ليلًا، أو بواسطة البوصلة، شريطة مراعاة قياسات الانحراف المغناطيسي حسب موقع الراصد لتحديد القبلة في تحري اقتفاء أثر مخرج الخارج من المسجد الحرام.
تختلف أدلة القبلة على ثلاثة أنواع: إما أرضية كالجبال والقرى والأنهار، أو هوائية كالرياح، أو سماوية كالنجوم. الأدلة السماوية تقريبية، وهي إما نهارية كالشمس، أو ليلية يستخدم فيها الكوكب الذي يعرف بالجدي، وهو كوكب ثابت لا تظهر حركته من مكانه.
تتمثل الطريقة اليقينية في تحديد القبلة بمعرفة خطي الطول والعرض لمكة المكرمة، أي ما يعرف بالدلائل الفلكية والهندسية. بناءً على ذلك، أصدرت الهيئة القضائية العليا في السعودية عام 1393هـ/1973م فتوى تجيز تحديد القبلة من خلال جهاز جايرو تيود لايت الذي يعمل على تحديد اتجاه القبلة بشكل يقيني، كما أكدت أنه إذا تحقق إمكان إصابة عين القبلة باستعمال الجهاز فلا يجوز لمن يستطيع ذلك الاستغناء عنه بغيره من أدلة القبلة الاجتهادية.
وفي النهايه :
إن القبلة ليست مجرد اتجاه جغرافي، بل هي رمز للوحدة والتوجه الروحي للمسلمين في جميع أنحاء العالم. من خلال استعراض تاريخ تحديد القبلة وجهود العلماء المسلمين في هذا المجال، ندرك الأهمية الكبيرة التي يوليها المسلمون لهذا الجانب من عبادتهم. فهل سنشهد تطورات جديدة في طرق تحديد القبلة في المستقبل، مع استمرار التقدم التكنولوجي والعلمي؟
