مسجد قباء: منارة الإسلام الأولى وتاريخ من التجديد والتوسع
مسجد قباء، أول مسجد تأسس في الإسلام، يقع في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة المنورة على طريق الهجرة، ويبعد حوالي 3.5 كيلومترات عن المسجد النبوي. تأسس في العام الأول للهجرة (622م) ويخضع لإشراف هيئة تطوير المدينة المنورة.
شهد المسجد توسعات وتجديدات عديدة منذ إنشائه. ويُعد مشروع الملك سلمان لتوسعة مسجد قباء الأكبر في تاريخه، والذي أعلن عنه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، في 7 رمضان 1443هـ (8 أبريل 2022م).
أصل تسمية مسجد قباء
يذكر معجم البلدان لياقوت الحموي أن اسم مسجد قباء مشتق من بئر قباء التي أُنشئت في ذلك المكان. كما عُرف المسجد قديمًا باسم مسجد بني عوف.
موقع مسجد قباء وأهميته
يقع مسجد قباء جنوب غرب المدينة المنورة، على طريق الهجرة الذي يربط بين المدينة ومكة المكرمة، على بعد 3.5 كلم من الحرم النبوي. كانت المنطقة التي بُني فيها المسجد تُعرف بقرية قباء، وهي قرية ذات بساتين ونخيل، تبعد عن المدينة المنورة حوالي ميلين أو ثلاثة.
مساحة مسجد قباء وقدرته الاستيعابية
يُعد مسجد قباء ثاني أكبر مسجد بعد المسجد النبوي من حيث المساحة، حيث يتسع لـ20 ألف مصلٍ. تبلغ مساحة أرض المسجد 13,500 متر مربع، بينما تبلغ مساحة المصلى وحده 5,035 متر مربع. يضم المسجد أربع مآذن و62 قبة، بالإضافة إلى سكن للأئمة والمؤذنين، ومكتبة، ومنطقة تسويق لخدمة الزائرين.
مكانة مسجد قباء في الثقافة الإسلامية
يحتل مسجد قباء مكانة مهمة في قلوب المسلمين، فهو أول مسجد أُسس في تاريخ الإسلام. كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يزوره بين الحين والآخر، ماشيًا أو راكبًا، للصلاة فيه، خاصة في أيام السبت، وكان يحث على زيارته. كما أنه أول مسجد أُقيمت فيه صلاة الجمعة جهرًا، وتقام فيه الآن جميع الصلوات، بما في ذلك صلاة الجمعة وصلاة العيدين.
أئمة مسجد قباء عبر التاريخ
تعاقب على إمامة مسجد قباء منذ إنشائه أئمة كثر في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، منهم سالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، ومعاذ بن ساعدة، ومجمع بن حارثة. وفي العهد السعودي، تولى الإمامة عدد من الأئمة، منهم علي بن عبدالرحمن الحذيفي، الذي تولى الإمامة في فترات متقطعة حتى عام 1399هـ (1979م)، وهو رئيس اللجنة العلمية لمراجعة مصحف المدينة النبوية، وعضو الهيئة العليا لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. ومنهم أيضًا محمد بن بخيت الحجيلي، الذي صدر قرار تعيينه إمامًا في 1444هـ (2023م)، وهو أستاذ دكتور في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وله مشاركات علمية وبحوث ومؤلفات متعددة.
تصميم مسجد قباء المعماري
حافظت التوسعة السعودية على التصميم القديم للمسجد، حيث بُني على أربعة أروقة مربعة الشكل، طول ضلعها 40 مترًا، مع فناء داخلي وقسمين للرجال والنساء، ومبني على طابقين. يحتوي المسجد على أبواب متعددة، سبعة مداخل رئيسة واثنا عشر مدخلًا فرعيًا، لتسهيل دخول الزوار.
تتكون الأروقة الأربعة من رواق جنوبي ورواق شمالي يفصل بينهما فناء مكشوف، ويتصل الرواقان شرقًا وغربًا برواقين طويلين. يتميز السقف بقباب متصلة، منها ست قباب كبيرة بقطر 12 مترًا لكل منها، و56 قبة صغيرة بقطر 6 أمتار لكل منها، وتتصل القباب بأقواس ترتكز على أعمدة كبيرة داخل كل رواق.
أرض المسجد وساحته مكسوة بالرخام العاكس للحرارة، وتُظلل الساحة بمظلات آلية مصنوعة من الألياف الزجاجية، يمكن طيها ونشرها حسب الحاجة. افتُتح المسجد بهذه التوسعة في عام 1407هـ (1987م).
مسجد قباء عبر العصور المختلفة
أسس النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مسجد قباء، وفيه مصلاه ومبرك ناقته. جُددت عمارة المسجد عدة مرات قبل العهد السعودي، بدءًا من عصر الخلفاء الراشدين، حيث جدده الصحابي عثمان بن عفان، ثم في عهد عمر بن عبدالعزيز الذي بنى له أروقة وشيّد أول مئذنة في الفترة 87-93هـ. تلا ذلك تجديد أبو يعلى الحسيني الذي وضع المحراب عام 435هـ، ثم جمال الدين الأصفهاني عام 555هـ، كما ساهم بعض المحسنين في تجديده على مر السنين، في الأعوام 671هـ، و733هـ، و840هـ، و881هـ، وجُدد أيضًا في عام 1245هـ.
مسجد قباء في العهد السعودي: نقلة نوعية
حظي مسجد قباء باهتمام كبير من الدولة السعودية، حيث أمر الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بشق طريق مستقيم بين المسجد النبوي ومسجد قباء عام 1351هـ (1932م). كما جُددت جدرانه الخارجية وزيد فيه من الجهة الشمالية عام 1388هـ (1968م) في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز.
في عام 1405هـ (1985م)، أمر الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود بتوسعة المسجد لتصل إلى 9 أضعاف مساحته آنذاك، من 1,600 متر مربع إلى 13,500 متر مربع، بما في ذلك المسجد والمرافق الخدمية التابعة له. بلغت مساحة المسجد وحده نحو 5035 متر مربع. وشمل الأمر إعادة بناء المسجد مع الحفاظ على معالمه التراثية، وضُمت أراضٍ محيطة به إلى المبنى الجديد، وجعل له أربع مآذن بدلاً من مئذنته الوحيدة القديمة، كل مئذنة في جهة وبارتفاع 47 مترًا.
مشروع الملك سلمان لتوسعة مسجد قباء: رؤية مستقبلية
يُعد مشروع الملك سلمان لتوسعة مسجد قباء الأكبر في تاريخ المسجد منذ إنشائه. أُعلن عن إطلاق المشروع من قبل صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، في 7 رمضان 1443هـ (8 أبريل 2022م).
يهدف المشروع إلى رفع المساحة الإجمالية للمسجد لتصل إلى 50 ألف متر مربع، أي ما يعادل 10 أضعاف مساحته قبل التوسعة، وزيادة طاقته الاستيعابية لتصل إلى نحو 66 ألف مصلٍ.
يرتكز المشروع على تزويد المساحات المحيطة بالمسجد بمظلات ومصليات مستقلة، وتوفير الخدمات اللازمة، وتحسين البنية التحتية المحيطة لاستقبال أعداد أكبر من الزوار بسهولة في المواسم وأوقات الذروة، وتوفير حلول للزحام وتعزيز سلامة المصلين، بالإضافة إلى تطوير مواقع تاريخية محيطة بالمسجد، تشمل 57 موقعًا، منها مزارع وبساتين وآبار. يهدف هذا المشروع إلى تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030 في برنامجي جودة الحياة وضيوف الرحمن.
مشروع واجهة قباء: تحسين تجربة الزائرين
ضمن برنامج أنسنة المدينة، الذي أشرفت عليه هيئة تطوير المدينة المنورة، أُطلق مشروع واجهة قباء، وهو مسار يمتد من مسجد قباء إلى قرب المسجد النبوي بطول 3 كيلومترات، ويضم مرافق متعددة للمشاة، وأبراجًا سكنية، وفنادق، ومحلات لبيع السلع المتنوعة.
يهدف المشروع إلى جذب السياح في مساحة عصرية تحافظ على الطابع العمراني للمدينة المنورة. يضم السوق أماكن للأسر المنتجة، تعرض منتجات متنوعة مثل الحلويات والأكلات الشعبية، والملابس وألعاب الأطفال، والذهب والمجوهرات.
يُعد هذا المشروع من مشاريع البنية التحتية التي تخدم سكان المدينة المنورة وزوارها، حيث يتيح لهم الوصول بين المسجدين عبر مسار مرصوف ومُهيأ، بما في ذلك ذوو الإعاقة، خاصة في شهري رمضان وذي الحجة.
تضمن المشروع تجميل المساحة، وتوحيد ألوان واجهات المباني وتصاميم المحلات التجارية. وفي عام 2018م، حصدت الواجهة جائزة أفضل موقع للجذب السياحي في السعودية.
معالم من التراث العربي والإسلامي حول مسجد قباء
مسجد الجمعة: ذكرى أول صلاة جمعة
يقع مسجد الجمعة التاريخي جنوب غرب المدينة المنورة، على بعد 900 متر شمال مسجد قباء. يُعرف أيضًا بمسجد الوادي، ومسجد القبيب، ومسجد عاتكة. يرتبط المسجد بحدث تاريخي مهم، حيث صلى فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول جمعة في المدينة المنورة. عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، أقام في قرية قباء، وعندما أدركته صلاة الجمعة، صلى في هذا المكان في وادي الرانوناء، حيث بُني المسجد لاحقًا. شُيّد المسجد من الحجر وجُدد عدة مرات. في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، أُعيد بناؤه وتوسعته وافتُتح عام 1412هـ (1991م)، ليضم 650 مصليًا، بعد أن كانت طاقته الاستيعابية لا تتجاوز 70 شخصًا.
بئر غرس: إرث نبوي
تقع بئر غرس على بعد 1500 متر شمال شرق مسجد قباء، جنوب المسجد النبوي. تُعد من المعالم المرتبطة بالتاريخ الإسلامي، حيث حُفرت قبل أكثر من 15 قرنًا، وتتكون من أحجار بازلتية. أُعيد تأهيلها وترميمها لتستقبل الزوار، وأعيد ضخ المياه منها لسقاية الزائرين، وأُحيطت بساتر حديدي للحماية. توجد حول البئر مساحة تغطيها الصخور الطبيعية، ويتضمن الموقع مصلى أثريًا محاذيًا له.
قلعة قباء: شاهد على التاريخ
تُعد قلعة قباء من المعالم التاريخية القريبة من مسجد قباء. شُيّدت عام 1915م للمراقبة والحماية والإشراف على الجهة الجنوبية، وتبلغ مساحتها نحو 218 مترًا مربعًا، وتتكون من دور أرضي وطابقين وسطح، ولها باب واحد في الجهة الشمالية، يعلوه برج المدخل الرئيس.
بُنيت القلعة من حجارة الحرة البركانية الصلبة، ولُيّست بالنّورة المدينية والجص. نفذت الهيئة العامة للسياحة والآثار مشروع ترميم القلعة وتأهيلها ضمن مشاريع صيانة المواقع الأثرية والتاريخية في المدينة المنورة، وشملت أعمال الترميم تأهيل الأساسات ومعالجة التربة والجدران الحجرية، وتدعيم الأسقف الخشبية والأقواس الحجرية، وإصلاح التشققات.
وفي النهايه :
مسجد قباء، ببصمته التاريخية العريقة، يظل شاهدًا على بداية انتشار الإسلام ومنارةً للمسلمين. وبينما يحتضن هذا الصرح مشاريع توسعة وتطوير عصرية، فإنه يحافظ على جوهره الروحي والتراثي. فهل ستساهم هذه التجديدات في تعزيز مكانة المسجد كمركز جذب ديني وثقافي عالمي؟











