تطور نظام مجلس الشورى في عهد الملك عبدالعزيز
في صميم نظام الحكم السعودي، يبرز نظام مجلس الشورى في عهد الملك عبدالعزيز بوصفه نهجًا محوريًا يستمد شرعيته من الشريعة الإسلامية. تأسس هذا النظام في عهد الملك المؤسس، عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وشهد تطورات مستمرة عبر المراحل المختلفة، وصولًا إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.
مراحل تأسيس نظام الشورى في عهد الملك عبدالعزيز
لقد اعتمد الملك المؤسس، عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، على مبدأ الشورى كركيزة أساسية في الحكم، وتحديدًا في الأمور السياسية والإدارية والعسكرية. وقد تجلى ذلك في دعوته إلى الشورى، مستلهمًا ذلك من الشريعة الإسلامية السمحة.
تتجلى أهمية تطبيق الملك عبدالعزيز لمبدأ الشورى في كلماته التي ألقاها في اجتماع مكة المكرمة، حيث أكد اهتمامه البالغ براحة شعبه، وتفكيره الدائم في خدمتهم وتأمين راحتهم واطمئنانهم. وأشار إلى أن مشاغله الكثيرة بتنظيم الأمور في البلاد لا تمكنه من تلبية احتياجات كل فرد بمفرده، مؤكدًا على أهمية المشورة والمشاركة في تسيير شؤون البلاد.
مبدأ الشورى استمر نظامًا للحكم منذ دخول الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود إلى مكة المكرمة وحتى بعد توحيد البلاد، وشهد مراحل وتطورات عدة، استجابة للمستجدات والتغيرات الداخلية والخارجية.
مجلس الشورى الأهلي عام 1343هـ/1924م
في 24 جمادى الأولى 1343هـ الموافق 20 ديسمبر 1924م، أُسس أول مجلس منتخب تحت مسمى “مجلس الشورى الأهلي“، وضم حوالي 12 عضوًا. وقبل استكمال بناء الدولة، صدر بيان ملكي بإسناد المواد الأساسية لإدارة البلاد إلى المجلس، واستمرت أعماله نحو ستة أشهر.
مجلس الشورى الأهلي عام 1344هـ/1925م
أصدرت الإدارة السلطانية أمرًا بتشكيل مجلس منتخب يمثل جميع أحياء مكة المكرمة، بهدف توسيع دائرة المشاركة. شملت عضويته اثنين من العلماء، وواحدًا من التجار، وثلاثة أعضاء من أعيان البلد يعينهم السلطان عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وتميز المجلس بتنظيمه المحكم مقارنة بسابقه، بوجود نائب للرئيس وأمين للسر.
افتُتح المجلس في 13 محرم 1344هـ الموافق 2 أغسطس 1925م، وتضمنت تعليمات تشكيل المجلس ست مواد، هي: تنظيم الأمور في المحاكم، والبلدية، والأوقاف، والتعليم، والأمن، والتجارة. كما شملت تشكيل لجان دائمة معنية بحل المشكلات التي يرجع فيها إلى العرف ولا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، بالإضافة إلى تحديد شروط العضوية وحقوق الاقتراع والمواعيد النهائية له.
في 22 جمادى الآخرة 1344هـ الموافق 6 يناير 1926م، أعلن أهل الحجاز البيعة للملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ملكًا عليهم. وفي اليوم التالي، تجمع الناس حول باب الصفا في المسجد الحرام، وحضر الملك عبدالعزيز وألقى خطبة بهذه المناسبة. ثم قدم الناس من جميع أنحاء البلاد لمبايعته بالملك، وفي اليوم نفسه تقرر أن يكون اسم رئيس الحكومة “ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها”، وشُكلت هيئة تأسيسية من 56 شخصًا، رشحوا من بينهم لجنة مكونة من 13 شخصًا لدراسة شكل الحكومة وتشكيلاتها الداخلية، إضافة إلى تحديد شكل العلم والنقود.
في 2 ذي القعدة 1344هـ الموافق 13 مايو 1926م، صدر أمر من الملك عبدالعزيز بتأليف مجلس استشاري في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وينبع والطائف، بهدف النظر في المسائل المحلية المهمة. اعتمدت هذه المجالس على الانتخاب بدرجة واحدة، وكان من يحق لهم الانتخاب: العلماء وأعيان البلاد والتجار ورؤساء الحرف والمهن. ضم المجلس 13 عضوًا: أربعة من مكة المكرمة، واثنان من المدينة المنورة، وثلاثة من جدة، واثنان من ينبع، وواحد من الطائف، وثلاثة من رؤساء العشائر. استند اختيار الأعضاء إلى توافر شروط عدة، منها: إجادة القراءة والكتابة، وحسن السيرة، وعدم صدور أحكام مخلة بالدين والشرف، وكانت مدة عضويتهم عام واحد.
مجلس الشورى عام 1345هـ/1926م
في 21 صفر 1345هـ الموافق 29 أغسطس 1926م، صدرت موافقة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على التعليمات الأساسية لنظام الحكم، وتضمنت التعليمات القسم الرابع الخاص بالمجلس، ومنها: تغيير المسمى إلى “مجلس الشورى” بدلًا من الاسم السابق “مجلس الشورى الأهلي”، وتشكيل أعضائه الذين بلغ عددهم 12 عضوًا، إضافة إلى تحديد مقره ومواعيد انعقاد جلساته، ومن لهم حق حضور الجلسات، وكانت مدة عضويته عامًا واحدًا.
مجلس الشورى عام 1346هـ/1927م
في 9 محرم 1346هـ الموافق 8 أغسطس 1927م، صدر أمر ملكي بتعديل القسم الرابع من التعليمات الأساسية الخاص بمجلس الشورى، وعمل المجلس حسب النظام الجديد المعدل على خمس عشرة مادة. تضمنت هذه المواد تحديد رئيس مجلس الشورى (النائب العام) وأحد مستشاريه، والسكرتير (أمين السر)، وثمانية أعضاء. اعتمد في انتخاب الأعضاء على ترشيح أربعة بعد استشارة أهل العلم والخبرة، وأربعة اختارتهم الحكومة حسب معرفتها، منهم اثنان من أهل نجد، ومدة عضويتهم عامان، ويُغير نصف الأعضاء كل عام، كما يحق للملك حل مجلس الشورى وتغيير أعضائه أو عزلهم.
اعتمد في انتخاب أعضاء مجلس الشورى على توافر مواصفات محددة، هي: ألا يقل عمر العضو عن 25 سنة، وأن يكون من أهل الخبرة والمعرفة، وألا يكون محكومًا عليه بأحكام مخلة بالشرف، ولا مفلسًا، إضافة إلى أن يكون حسن السلوك. أُسند لمجلس الشورى عدة أعمال، منها: موازنات دوائر الحكومة والبلدية، وموازنة عين زبيدة، والرخص للعمل على المشاريع العمرانية والاقتصادية، والامتيازات والمشاريع المالية، ونزع الملكية للمنافع العمومية، وسن القوانين والأنظمة، وغيرها.
انقسم مجلس الشورى وفق النظام إلى لجنتين تولت كل واحدة دراسة المعاملات التي يسندها إليها سكرتير المجلس، وكان ينعقد المجلس مرتين في الأسبوع، أو أكثر من ذلك كلما دعت الحاجة لذلك، بحضور الرئيس وأربعة من الأعضاء، وكانت تُصدر القرارات بموافقة مجموع أصوات المجلس آنذاك. يدعى في المجلس رئيس الدائرة ذو العلاقة ببحث المجلس في مسألة لها علاقة بدائرته، ويمكن للمجلس أن يلفت نظر الحكومة إلى أي خطأ وقع في تطبيق القوانين والأنظمة المعروفة، وإذا عرضت الحكومة مشروعًا على المجلس، ورفضه أو عدلت فيه تعديلات لم توافق عليها الحكومة، يتعين على النائب العام أن يُعيد المشروع إلى المجلس لاتخاذ الإجراء الذي ينص عليه النظام.
يمثل عام 1346هـ/1927م التأسيس الفعلي لمجلس الشورى في عهد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وافتتح الملك دورته الأولى في 14 محرم 1346هـ الموافق 13 يوليو 1927م، ثم عُقدت جلسته الأولى في 18 محرم 1346هـ الموافق 17 يوليو 1927م.
مجلس الشورى عام 1347هـ/1928م
في عام 1347هـ/1928م، اقتضت المصلحة إجراء بعض التعديلات على نظام مجلس الشورى في حوالي 14 مادة، منها: زيادة أعضاء المجلس إلى حوالي 12 عضوًا، بدلًا من ثمانية أعضاء، وأن يعين الملك نائبًا دائمًا للمجلس، وأن ينتخب المجلس نائبًا ثانيًا له، وأن تُعقد جلسات المجلس يوميًا بدلًا من مرتين في الأسبوع. في العام نفسه صدر ملحق للنظام، ضم سبع مواد مكتوبة بشكل مناسب ومنظم لسير أعمال المجلس، ثم صدر نظام معدل للمجلس تحت مسمى “النظام الداخلي لمجلس الشورى” وشمل 24 مادة.
استمر نظام مجلس الشورى دون تعديل في ممارسة صلاحياته حتى أُسس مجلس الوزراء عام 1373هـ/1953م، ثم جرى توزيع صلاحيات مجلس الشورى بين مجلس الوزراء والأجهزة الحكومية الحديثة وفقًا لأنظمتها، وواصل مجلس الشورى عقد جلساته واستعرض ما يحال إليه حسب نظامه.
وفي النهايه :
تجسد مسيرة مجلس الشورى في عهد الملك عبدالعزيز قصة تطور مستمر، يعكس حرص المؤسس على إرساء دعائم الحكم الرشيد والمشاركة المجتمعية. فمنذ البدايات المتواضعة للمجالس الأهلية، وصولًا إلى التنظيم المؤسسي المتكامل، يظل نظام الشورى السعودي علامة فارقة في تاريخ المملكة. فهل سيستمر هذا النهج في التطور ليواكب تحديات العصر الحديث؟