الإمام سعود الكبير: قائد وباني مجد الدولة السعودية الأولى
الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود (1161هـ-1229هـ/1748م-1814م)، ثالث أئمة الدولة السعودية الأولى وحفيد مؤسسها، يُعرف بأبي عبدالله ولُقب بـ سعود الكبير؛ لعظم اتساع الدولة في عهده، إضافة إلى مكانتها المرموقة سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا. عُرف بشجاعته الفائقة وقدرته القيادية العسكرية التي لم تعرف الهزيمة في أي من غزواته.
نشأة الإمام سعود بن عبدالعزيز
وُلد سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن في الدرعية عام 1161هـ/1748م، والدته هي ابنة عثمان بن معمر. بدأت مشاركته في معارك توحيد الدولة السعودية الأولى مع والده، ضمن الجيش المتجه إلى بلدة العودة في إقليم سدير عام 1181هـ/1767م. وفي العام التالي، تولى الإمام سعود قيادة الجيوش، محققًا انتصارات متتالية وسّعت حدود الدولة.
شخصية الإمام سعود بن عبدالعزيز
تميز الإمام سعود بن عبدالعزيز بذكائه وسرعة حفظه وفهمه، وكان من أبرز علماء عصره في التفسير والحديث والفقه وعلوم اللغة العربية. كان خطيبًا مفوهًا ومحدثًا بارعًا، يتمتع بالفصاحة والبلاغة وحُسن البيان، جمع بين الهيبة والتواضع، وكان عادلاً في حكمه ومرنًا في سياسته.
كان الإمام محبًا للعلم وداعيًا له، يعقد مجالس للمطالعة والتدريس في قصره وتحت إشرافه عندما يكون في الدرعية، وفي بعض الأحيان كان يتولى التدريس بنفسه. ورغم كثرة مسؤولياته والتحديات التي تواجه الدولة المترامية الأطراف، كان يخصص وقتًا لزيارة مجالس التدريس العامة للاطلاع على أعمال الطلبة فيها ومكافأة المتميزين منهم.
لم يكن الإمام سعود بن عبدالعزيز مستبدًا برأيه، بل كان حريصًا على استشارة العلماء والحكماء قبل اتخاذ أي قرار يحتمل المخاطر. وفي المسائل المتعلقة بأهل البادية، كان يستدعي أبناء القبائل ويطلب مشورتهم فيما يرونه مناسبًا لهم. اشتهر الإمام سعود بشجاعته التي أرهبت الأعداء، فكانوا يفرون بمجرد سماعهم بقدومه، تاركين خلفهم كل ما يملكون. وتؤكد المصادر التاريخية أن راية الإمام سعود لم تُهزم قط في أي معركة قادها.
مشاركة الإمام سعود بن عبدالعزيز في معارك توحيد الدولة السعودية الأولى
شارك الإمام سعود بن عبدالعزيز والده في معارك توحيد الدولة السعودية الأولى ضد خصومها، وتمكن من ضم الأحساء والحجاز ودخول مكة المكرمة، بعد أن غادرها الشريف غالب إلى جدة، تاركًا أخاه عبدالمعين بن مساعد. فقام عبدالمعين بمراسلة الإمام سعود، معلنًا ولاءه مقابل الإبقاء عليه في مكة المكرمة، فوافق الإمام سعود ودخل مكة دون قتال، وأزال مظاهر الترف والبذخ وألغى الضرائب الجائرة.
كما كتب إلى السلطان سليم الثالث ليمنع والي مصر ووالي دمشق من إرسال المحمل الذي تصاحبه الطبول، ثم توجه إلى جدة وحاصرها، لكنه وجد تحصيناتها قوية فتركها وعاد إلى الدرعية. بعد مغادرة الإمام، عاد الشريف غالب إلى مكة المكرمة واستعاد السيطرة عليها. في هذه الفترة، اغتيل الإمام عبدالعزيز وانشغل ابنه الإمام سعود بمعارك مع والي الدولة العثمانية في العراق، لكنه عاد لاحقًا إلى مكة المكرمة لاستعادة حكمها.
تولي الإمام سعود بن عبدالعزيز الحكم
بُويع الإمام سعود بن عبدالعزيز وليًا للعهد في عهد أبيه الإمام عبدالعزيز عام 1202هـ/1788م، وكان يبلغ من العمر 41 عامًا. وبعد اغتيال والده، بُويع إمامًا للدولة السعودية عام 1218هـ/1803م، واستكمل الإمام سعود ما بدأه والده وجده في بناء الدولة وتوحيد أقاليمها، وتوالت انتصاراته العسكرية حتى بلغت الدولة في عهده أوج عظمتها واتساعها، لذلك لُقب بـ سعود الكبير.
كان أول عمل قام به الإمام سعود بن عبدالعزيز بعد توليه الحكم هو تجهيز جيشه لغزو البصرة في العراق، حيث سار إليها وحاصرها وهدم جميع القباب المحيطة بها. كما حاصر مدينة الزبير لمدة 12 يومًا، وقاد غزوات ضد بعض العشائر. لم ينسَ الإمام سعود عودة الشريف غالب إلى مكة وعزله للأمير الذي عينه سابقًا، وأنه يفكر في الثأر، فأمر ببناء حصن في وادي فاطمة بالقرب من مكة المكرمة للضغط على الشريف غالب، كما أمر القائد عبدالوهاب أبو نقطة بالهجوم على جدة.
نزل عبدالوهاب أبو نقطة قرب الساحل على بعد يوم ونصف اليوم من مكة، وعندما علم الشريف غالب بذلك، توجه إليه بقواته ليسبق إمدادات الدرعية. دارت معركة بين الطرفين، وانتصر جيش الإمام سعود، مما اضطر الشريف غالب للعودة إلى مكة بعد تفرق رجاله.
ازداد الضغط على الشريف غالب، فبالإضافة إلى الحصار العسكري والاقتصادي، أصابت الجزيرة العربية موجة جفاف استمرت نحو 8 سنوات، مما أضر بإقليم الحجاز بشكل مضاعف، على عكس الدرعية التي كانت تتلقى المؤن من موانئ الخليج العربي، الأمر الذي ساعد في تشديد الحصار على شريف مكة. أصدر الإمام سعود أمرًا إلى قادته: عبدالوهاب أبو نقطة، وعثمان المضايفي، وسالم بن شكبان، بالتوجه بقواتهم إلى مكة ومنع القوافل المسلحة من دخولها.
عندما رأى الشريف غالب ضعف موقفه وعدم قدرته على المقاومة، طلب الصلح مع الإمام سعود، ووعد بالتوجه إلى الدرعية بعد الحج مباشرة لتقديم البيعة والطاعة والولاء له، فوافق قادة الجيش السعودي ودخلوا مكة حجاجًا آمنين، وبذلك دخلت مكة المكرمة تحت الحكم السعودي. وبعد أداء مناسك الحج، عاد كل منهم إلى مقر إمارته.
في الوقت الذي كان القادة العسكريون يعقدون صلحًا مع الشريف غالب، عُقد صلح مماثل في المدينة المنورة مع زعماء القبائل، وبايعوا فيه الإمام سعود على السمع والطاعة، فأرسل إليهم بعض العلماء لتعليم الناس ونشر الدعوة الإسلامية السمحة بينهم، وبذلك أصبح الحجاز بأكمله تابعًا للدولة السعودية.
حملات الدولة العثمانية على الدولة السعودية الأولى
لم ترضَ الدولة العثمانية بدخول مكة المكرمة تحت الحكم السعودي، فأمر السلطان العثماني واليه على مصر محمد علي باشا بتجهيز حملة عسكرية صوب الحجاز، وكلّف محمد علي ابنه طوسون بقيادة الحملة التي انطلقت عام 1226هـ/1811م، وكانت تضم 14 ألف مقاتل مع كامل المعدات من مدافع وأسلحة وخيول، واستولى على ينبع ثم سار إلى المدينة المنورة.
كان قد سبقه إليها جيش كبير جهزه الإمام سعود بقيادة ابنه عبدالله، قوامه 18 ألف مقاتل، منهم 800 فارس، التقى الطرفان في وادي الصفراء ودارت المعارك بينهما ثلاثة أيام، انهزمت فيها حملة طوسون وهرب مع رجاله إلى ينبع حيث ترسو سفنهم.
استنجد طوسون بوالده بعد هزيمته في المدينة المنورة، فأرسل له المدد عام 1227هـ/1812م، واستعان به في إغراء بعض رجال القبائل واستمالتهم للقتال في صفوفه، فاتجه إلى المدينة المنورة واستولى عليها، ثم سار إلى جدة ودخلها دون مقاومة باتفاق سري مع الشريف غالب.
بعد مغادرة الإمام سعود إلى الدرعية، توجه طوسون وجيشه إلى مكة المكرمة ودخلها عام 1228هـ/1813م، وخرج الأمير عبدالله بقواته إلى العُبيلا شرقي الطائف، وأرسل فرقة من رجاله الى تُربة للاستيلاء عليها بقيادة مصطفى باشا، لكنه انهزم فعاد إلى الطائف واشتبك مع قائدها عثمان المضايفي، وساندته قوّة إضافية بقيادة الشريف غالب حتّى تمكنوا من هزيمة عثمان المضايفي ودخول الطائف.
هاجم الإمام سعود قوات طوسون التي كانت تُعسكر في بلدة الحناكيّة قرب المدينة المنورة عام 1228هـ/1813م، وأجبرهم على الاستسلام، ثم هاجم القبائل التي تحالفت مع جيش طوسون، ووصل بقواته إلى ضواحي المدينة المنورة. وفي هذه الأثناء، قاد محمد علي باشا بنفسه حملة عسكرية وصلت إلى الحجاز، ونفى الشريف غالب وعيّن مكانه الشريف راجح الذي فرّ لاحقًا إلى تُربة وانضم للجيش السعودي. عاد الإمام سعود إلى الدرعية وأخذ يدعم جيشه في تُربة التي صمدت أمام القوات العثمانية رغم شدة الحصار عليها وضربها بالقنابل دون جدوى، حتى انهزمت فيها قوات طوسون وعادت أدراجها.
وفاة الإمام سعود بن عبدالعزيز
توفي الإمام سعود بن عبدالعزيز في 11 جمادى الأولى 1229هـ/1814م، في الدرعية بعد 11 عامًا قضاها في الحكم، عن عمر يناهز 68 عامًا، وكان له 12 ابنًا، هم: عبدالله (الإمام عبدالله لاحقًا)، وفيصل، وناصر، وتركي، وإبراهيم، وسعد، وفهد، ومشاري، وعبدالرحمن، وعمر، وحسن، وخالد.
وفي النهاية :
الإمام سعود الكبير يمثل حقبة ذهبية في تاريخ الدولة السعودية الأولى، إذ شهدت البلاد في عهده اتساعًا نفوذًا وازدهارًا لم يسبق له مثيل. شخصيته القيادية الفذة، وشجاعته التي لا تلين، وحكمته في إدارة الدولة، جعلت منه رمزًا للقوة والعدل. كيف يمكن للأجيال القادمة أن تستلهم من إرثه في بناء مستقبل مشرق؟











