توحيد المملكة العربية السعودية: مسيرة تأسيس وبناء
في قلب التاريخ العربي الحديث، تتجلى قصة توحيد المملكة العربية السعودية كإحدى أبرز التحولات السياسية والاجتماعية. هذه العملية، التي قادها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، لم تكن مجرد توحيد لأراضٍ متفرقة، بل كانت بناء لدولة حديثة ذات هوية راسخة. استغرقت هذه المسيرة 32 عامًا من العمل الدؤوب، بدأت بعد استعادة الرياض، وشهدت تحولات كبيرة في المنطقة.
الخروج من الرياض: البدايات الصعبة
شهدت الدولة السعودية الثانية تحديات جسيمة خلال فترة تأسيسها، تمثلت في الحملات الخارجية، أبرزها الاحتلال العثماني للأحساء، والاضطرابات الداخلية التي تجسدت في انفصال حائل. كان محمد بن عبدالله بن رشيد، أمير حائل آنذاك، يطمح لضم الرياض، وحاصرها لمدة 40 يومًا. تفاوض الإمام عبدالرحمن مع ابن رشيد، ممثلًا بوفد يقوده ابنه عبدالعزيز، وتم الاتفاق على بقاء الدولة السعودية في الرياض تحت حكم الإمام عبدالرحمن.
إلا أن محاولات ابن رشيد للاستيلاء على الرياض استمرت حتى سقوط الدولة السعودية الثانية في عام 1309هـ/1891م. اضطرت أسرة آل سعود للخروج من الرياض والتنقل في البادية، مرورًا بقطر والبحرين والأحساء. اعتمد الإمام عبدالرحمن على ابنه عبدالعزيز في المراسلات السياسية، وأرسله إلى أمير البحرين، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، لطلب الإذن بإقامة نساء العائلة في البحرين، خوفًا عليهن من الاضطرابات الأمنية، وهو ما وافق عليه الشيخ عيسى.
بعد تنظيم جيشه، عاد الإمام عبدالرحمن إلى الرياض، لكنه لم ينتصر في معركته مع ابن رشيد في حريملاء. لجأ الإمام إلى إرسال الملك عبدالعزيز للأحساء للتفاوض مع الدولة العثمانية بشأن إقامته وعائلته، لكن طلبه قوبل بالرفض. بعد سبعة أشهر قضاها في البادية، طلب الإمام عبدالرحمن من الشيخ قاسم بن ثاني، أمير قطر، الإقامة في قطر، حيث استقبله وأقام عنده أربعة أشهر، قبل أن ينتقل وأسرته إلى الكويت في عام 1311هـ/1893م، وذلك بعد الحصول على موافقة الدولة العثمانية.
الكويت: نقطة الانطلاق نحو استعادة الرياض
كان الإمام عبدالرحمن يرى في الكويت موقعًا استراتيجيًا لقربها من طرق القوافل، مما يتيح له متابعة أوضاع الرياض والاستعداد للعودة إليها. هذه التنقلات والأحداث المتتالية أكسبت الملك عبدالعزيز خبرة قيادية كبيرة، حيث تعرف على طباع البادية وجغرافية المنطقة، إضافة إلى الأوضاع الإدارية للأقاليم المحيطة. قضى الملك عبدالعزيز معظم وقته في الكويت لدراسة طرق استعادة الرياض.
استعادة حكم الرياض: العودة المظفرة
لم يفقد الملك عبدالعزيز عزيمته وإصراره على استعادة الرياض، رغم الظروف الصعبة، بما في ذلك التوتر في العلاقة بين حائل والكويت. تصاعدت الخلافات بين الشيخ مبارك والأمير عبدالعزيز بن متعب بن رشيد، خاصة بعد معركة الصريف التي لم يشارك فيها الملك عبدالعزيز، الذي قاد حملة اتجهت إلى الرياض، وكانت هذه أولى محاولاته لاستعادة المدينة.
حاصر الملك عبدالعزيز المصمك لمدة 40 يومًا، وقام خلالها بتنفيذ خطة لحفر نفق للدخول إلى القصر. إلا أن أخبار هزيمة الشيخ مبارك في معركة الصريف أجبرته على فك الحصار والانسحاب من الرياض. وعلى الرغم من ذلك، كانت هذه أول تجربة عسكرية يقودها الملك عبدالعزيز بنفسه.
إصرار وعزيمة لا يلين
ظل الملك عبدالعزيز يلح على والده للسماح له بمحاولة أخرى لاستعادة الرياض، وبعد إصرار شديد، وافق الإمام عبدالرحمن، ليخرج الملك عبدالعزيز من الكويت متوجهًا إلى الرياض.
في عام 1319هـ/1901م، وبعد أشهر من معركة الصريف، انطلق الملك عبدالعزيز لاستعادة الرياض ومعه 40 ذلولًا و30 بندقية و200 ريال، بالإضافة إلى رجال من أسرته وأتباعه المقربين. وخلال مسيرته، حقق انتصارات متتالية على القبائل الموالية لابن رشيد، مما عزز قوته وزاد من صيته بين القبائل. وبعد خمسة أيام، وصل إلى حفر العتك، وأرسل طلائع إلى الرياض لجمع المعلومات، لكنهم عادوا بأخبار تفيد بأن الوقت غير مناسب للهجوم.
تراجع الملك عبدالعزيز عن دخول الرياض في ذلك الوقت، وواصل تحركاته في بادية نجد، منتصرًا في معاركه مع القبائل الموالية لابن رشيد، وموزعًا الغنائم على رجاله. كان هدفه تهيئة رجاله لاستعادة الرياض ومعرفة مدى سهولة التحرك في مناطق نفوذ الدولة العثمانية. بعد ذلك، عاد إلى الأحساء ثم إلى بنبان قرب الرياض، حيث زاد عدد رجاله. ومع تضييق القوات العثمانية الخناق عليه وقلة المؤونة، لم يتبق معه سوى القليل من الرجال.
اعتمد الملك عبدالعزيز استراتيجية جديدة تقوم على السرية والمباغتة بقلة من الرجال، واتجه إلى رمال الجافورة شمال صحراء الربع الخالي للتخفي والاستعداد للزحف نحو الرياض. أقام هناك مع رجاله لمدة 50 يومًا، مستفيدًا من ذكرياته في التنقل مع والده في الربع الخالي.
اقتحام المصمك وإعلان النصر
انطلق الملك عبدالعزيز لاستعادة الرياض، متوجهًا إلى باحة قصر المصمك، مقر حاكم الرياض. كانت خطته تقوم على الهجوم على عجلان، حاكم الرياض، في منزله دون التعرض للأهالي. تسلل مع رجاله إلى المنازل المقابلة للقصر، وبعد تأمين الموقع، انضمت إليهم مجموعة من رجال أخيه محمد. ومع فجر 5 شوال 1319هـ/14 يناير 1902م، دخل الملك عبدالعزيز ورجاله القصر، وهزموا حامية عجلان بن محمد العجلان، وقتل عجلان وبعض رجاله، واستسلم البقية، وأُعلن أن الحكم لله ثم لعبدالعزيز.
مبايعة الملك عبدالعزيز إمامًا لنجد
بعد استعادة الرياض، بدأ الملك عبدالعزيز بإعادة بناء سور المدينة، وأرسل ناصر بن سعود إلى الكويت لإبلاغ الإمام عبدالرحمن بانتصاره وطلب المساعدة. وبعد شهر، جاء الأمير سعد أخو الملك عبدالعزيز ومعه 100 رجل وبعض الذخيرة. انضم عدد من أهالي نجد لصفوف الملك عبدالعزيز، فأصبح جيشه يضم ما يقارب 1000 رجل.
عاد الإمام عبدالرحمن من الكويت مع أسرته، وأخبره الملك عبدالعزيز بأن الدولة ملك له، وأنه جندي في خدمته. لكن الإمام عبدالرحمن رفض وتنازل عن الحكم لابنه، وقَبِل الملك عبدالعزيز الإمارة، على شرط أن يكون لأبيه الإشراف الدائم على عمله وإرشاده. وفي عام 1320هـ/1902م، تسلّم الملك عبدالعزيز حكم الدولة في الرياض، وأعلن والده تنازله عن الحكم، وأهدى له سيف الإمام سعود الكبير.
مسيرة توحيد المملكة العربية السعودية
قضى الملك عبدالعزيز 32 عامًا في توحيد معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية، وقاد الشعب نحو عهد جديد من الأمن والاستقرار. خاض الملك عبدالعزيز عشرات المعارك في توحيد المملكة، منها 26 معركة بدأها بالرياض عام 1319هـ/1901م، وشملت بعد ذلك الدلم وفيضة السر وعنيزة والبكيرية وشنانة وروضة مهنا والطرفية وتربة وحائل والطائف وجدة وجازان ونجران.
العارض والقصيم: محطات فاصلة
بدأ الملك عبدالعزيز توحيد البلاد بالجهات الجنوبية من نجد، لقربها من الرياض وولاء أهلها للدولة السعودية، إضافة إلى كونها مأوى للمناهضين للعثمانيين.
نظرًا لأهمية منطقة القصيم، أدرك الملك عبدالعزيز والأمير عبدالعزيز بن رشيد أنها ستكون مسرح الحسم بينهما. فأرسل الملك عبدالعزيز لوجهاء القصيم المغتربين في الكويت، الذين انضموا إليه في منطقة الزلفي. ثم اتجه إلى منطقة القص