النهضة الزراعية في عهد الملك المؤسس: رؤية تاريخية
في مستهل تاريخ المملكة العربية السعودية الحديثة، يبرز قطاع الزراعة في عهد الملك عبدالعزيز كركيزة أساسية، حيث قام الملك المؤسس، عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، بخطوات جبارة للنهوض بهذا القطاع الحيوي. شملت جهوده المناطق التي ازدهرت فيها الزراعة قبل توحيد المملكة، بالإضافة إلى تطوير مناطق زراعية جديدة، مما يعكس رؤيته الشاملة لبناء دولة قوية ومستدامة.
نظرة على واقع الزراعة في بداية عهد الملك عبدالعزيز
واجهت الزراعة في بداية عهد الملك عبدالعزيز تحديات جمة، أهمها محدودية الأراضي الصالحة للزراعة بسبب الطبيعة الصحراوية والمناخ الجاف. ومع ذلك، استطاعت بعض المناطق أن تبرز بفضل توافر المياه الجوفية أو مياه السيول الموسمية. من هذه المناطق: الأحساء، والقطيف، وواحات يبرين في المنطقة الشرقية، والخرج في منطقة الرياض، ووادي فاطمة والطائف في منطقة مكة المكرمة، بالإضافة إلى أراض زراعية في المدينة المنورة، وحائل، وبعض الواحات الشمالية والمناطق الجنوبية كعسير والباحة ونجران وجازان.
تنوعت المحاصيل الزراعية في هذه المناطق لتشمل النخيل، والخضراوات، والبرسيم، بالإضافة إلى الحبوب كالقمح، والشعير، والأرز، والذرة، والدخن، والسمسم، والبر، وبعض أصناف الفاكهة، وقصب السكر، مما يدل على قدرة المزارعين على التكيف مع الظروف البيئية الصعبة.
مشروع الهجر الزراعية: رؤية للتوطين والتنمية
في عام 1330هـ/1912م، أطلق الملك عبدالعزيز مشروعًا طموحًا لتوطين البدو الرحل في هجر زراعية، وتدريبهم على أساليب الزراعة الحديثة. لم يكن هذا المشروع مجرد مبادرة اقتصادية، بل كان له أبعاد اجتماعية وثقافية تهدف إلى تحويل نمط حياة البدو وتحقيق الاستقرار الاجتماعي. وقد بلغ عدد هذه الهجر في عهد الملك عبدالعزيز أكثر من 170 هجرة، مما يعكس حجم الاهتمام الذي أولاه الملك لهذا المشروع.
التنظيمات الإدارية الزراعية: أسس قانونية للتطوير
أصدر الملك عبدالعزيز مجموعة من التعليمات واللوائح الإدارية لتنظيم قطاع الزراعة، شملت هذه التنظيمات حل الخلافات الزراعية، وتنظيم العلاقة بين المزارعين ومستأجري الأراضي الزراعية الحكومية والخاصة، بالإضافة إلى تنظيم العقود الزراعية. كما شجع على تشكيل هيئات زراعية منتخبة تهتم بشؤون الزراعة والمزارعين، وتدعم إنشاء الشركات الزراعية، وتكافح الآفات الزراعية. وفي عام 1349هـ/1930م، صدر أمر ملكي بمنح صك ملكية لكل من يحيي أرضًا ميتة، تبعه بعد خمس سنوات أمر ملكي آخر ينظم إحياء الأراضي ويمنع الإحياء العشوائي للأراضي البور. وفي عام 1367هـ/1948م، انضمت المملكة العربية السعودية إلى منظمات زراعية عالمية تابعة لهيئة الأمم المتحدة، مثل منظمة الأغذية والزراعة الفاو، مما يعكس التزام المملكة بالتعاون الدولي في مجال الزراعة.
المديرية العامة للزراعة: ذراع الدولة للتنمية الزراعية
في عام 1367هـ/1948م، تأسست المديرية العامة للزراعة، والتي كانت تتبع في البداية لوزارة المالية ثم ألحقت بوزارة الداخلية. اتخذت المديرية من مدينة جدة مقرًا لها، وأنشأت فروعًا في معظم المناطق الزراعية في البلاد. قامت المديرية بدور حيوي في دعم المزارعين من خلال استيراد مكائن ري وتوزيعها بالتقسيط، وحفر الآبار الارتوازية، وإنشاء السدود للاستفادة من مياه الأودية، وتقنين استخدام مياه العيون الزراعية. كما قامت بحراثة الأراضي بأجور رمزية، واستوردت 30 ألف شجرة لصد الرياح وتوزيعها مجانًا على المزارعين، بالإضافة إلى إنشاء مزارع نموذجية ومشاتل ومعامل للألبان والتفريخ وحقول لتربية الدواجن.
استقطاب الخبرات وتدريب الكوادر الوطنية
لم تكتف المديرية العامة للزراعة بالدعم المادي، بل عملت أيضًا على استقطاب مهندسين وبعثات زراعية من دول عربية وأجنبية لتعليم وتدريب المزارعين المحليين، ومعالجة المشكلات التي تواجههم، وإصلاح وصيانة الآليات والمكائن. كما استقدمت جيولوجيين أمريكيين للتنقيب عن المياه، مما يدل على حرص الدولة على توفير كل الإمكانات لتطوير القطاع الزراعي.
دعم المزارعين وتخفيف الأعباء المالية
أصدر الملك عبدالعزيز أوامر بتوزيع البذور وأكياس القمح والشعير والحنطة، بالإضافة إلى توزيع الإعانات المالية على المزارعين، وتوزيع أشجار الفاكهة والأسمدة. كما مُنع الدائنون من التصرف في الرهون الزراعية، وقدمت وزارة المالية القروض الميسرة للمزارعين، وأعفيت الآلات الزراعية والمعدات من الرسوم الجمركية، مما ساهم في تخفيف الأعباء المالية عن كاهل المزارعين وتشجيعهم على الاستثمار في قطاع الزراعة.
وفي النهايه :
بعد وفاة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، في 18 ربيع الآخر 1373هـ/24 ديسمبر 1953م، تم تشكيل مجلس وزراء جديد تضمن إنشاء وزارة للزراعة، وعين الأمير سلطان بن عبدالعزيز أول وزير لها، لتتواصل مسيرة التنمية الزراعية في المملكة العربية السعودية. هذه الجهود والإجراءات التي اتخذها الملك عبدالعزيز، هل وضعت الأساس لقطاع زراعي مستدام وقادر على تلبية احتياجات المملكة؟ وهل يمكن اعتبارها نموذجًا يحتذى به في الدول الأخرى ذات الظروف المماثلة؟